
السيدة ليلى الزعروري، متخصصة في مجال الطيران، وباحثة في الأدلة الجنائية الفضائية، تُعني بالشؤون القانونية والإصلاح القضائي. جنيف، سويسرا.
📍جنيف، سويسرا
تلقيتُ رسالة كريمة من الأستاذ حميد كرايري، المحامي بهيئة القنيطرة، والذي أخبرني بأنه بصدد تنظيم ندوة قانونية في إطار المنتدى المغربي للدراسات القانونية، حول موضوع قانون العقوبات البديلة، الذي من المرتقب أن يدخل حيّز التنفيذ ابتداءً من شهر غشت المقبل.
وقد دعاني مشكورًا إلى المساهمة، ولو عن بُعد، من خلال مقالات وأبحاث أكاديمية تُثري النقاش العمومي والأكاديمي حول هذا الورش التشريعي الهام.
واستجابةً لهذه الدعوة، ارتأيت أن أشارك ببعض المواد العلمية والتجارب المقارنة ذات الصلة بالعقوبات البديلة، كما أدرجتُ في هذه المساهمة تجربتين شخصيتين تعكس جوانب عملية ومعقّدة لهذا النظام العقابي، وتُسلّط الضوء على بعض الفرص والتحديات المرتبطة بتطبيقه في السياقات الواقعية.
العقوبات البديلة بين فلسفة الإصلاح ومشاعر عدم الإنصاف: تأملات من تجربتين شخصيتين
التجربة الأولى: خلال فترة الحجر الصحي، خالفتُ قانون التنقل بخروجي من سويسرا إلى فرنسا فقط لشراء باقة نعناع. وقد سبق لي أن تناولتُ تفاصيل هذه الواقعة في مقال سابق، لما لها من دلالة على كيفية تطبيق القانون في ظروف استثنائية. ورغم بساطة الحدث، إلا أنه جعلني أختبر كيف يمكن للقانون أن يُطبَّق بشكل مرن أو صارم حسب الظروف. وقد اعتُبرت هذه المخالفة خرقًا، وتم التعامل معها بأسلوب بديل إيجابي، حيث اكتفت السلطات بفرض غرامة مالية قمت بدفعها لحظة توقيفي، دون اللجوء إلى العقوبات السجنية.
التجربة الثانية: خلال فترة إغلاق الحدود بسبب جائحة كوفيد، تعذّر عليّ السفر إلى إسبانيا لأكثر من سنة، رغم أنني أملك هناك عقارات، من بينها فيلا لقضاء العطلة الصيفية. وبعد أن فُتحت الأجواء وسُمِح بالسفر، تمكنت أخيرًا من التوجّه إلى إسبانيا لتفقّد الفيلا، وذلك بعد انقضاء عام كامل. وصلت في ساعة متأخرة من الليل، وما إن حاولت فتح الباب الخارجي حتى صُدمت بوجود عائلة تقيم داخلها، وكانت كاميرات المراقبة مكسورة، و اتضح لي وجود شابة إسبانية تعيش فيها بشكل غير قانوني هي وصديقها، وقد أنجبت خلالها طفلًا رضيعًا.
كان موقفي حينها معقدًا، إذ وجب عليّ مراعاة المصلحة الفضلى للطفل، خاصة وأن الفيلا لا تُعتبر مسكني الرئيسي. لذلك، اضطررت للاتصال بالشرطة من أجل اللجوء إلى المساطر القضائية لطلب الإفراغ وفقًا للإجراءات المعمول بها.
ما أثار انتباهي من الناحية القانونية هو محاولة الشابة، أثناء حضور الشرطة، تكييف الواقعة على أنها مجرد اقتحام منزل غير مأهول، أي جنحة بسيطة، وذلك حتى تتمكن من الاستفادة من العقوبات البديلة التي تُطبّق في إسبانيا، والتي ترتكز بشكل كبير على العمل لفائدة المجتمع بدلًا من العقوبات الحبسية.
كما صرحت لهم بأنها كانت تمر بظروف صعبة أثناء الحجر الصحي، وحاولت الوصول إليّ عبر فيسبوك لطلب إذن مسبق للسكن بالفيلا. هذا التصريح كان جزءًا من استراتيجيتها، لتُظهر أن الخرق كان بسيطًا، وأنها لا تملك دخلًا ولا عملًا، وبالتالي فهي مؤهلة للعقوبات البديلة بدلًا من السجن والتعويضات.
بصدق، شعرتُ في تلك اللحظة بعدم الإنصاف كضحية، فاقتحام الفيلا، وكسر الكاميرات، والمساس بخصوصيتي، كلها أفعال كنت أراها من منظور شخصي وقانوني، أفعالًا جنائية وليست مجرد جنح. وراودني إحساس قوي بأن العقوبة البديلة، في مثل هذه الحالات، قد تُصبح “مخففة” أكثر مما ينبغي مقارنة بخطورة الفعل المرتكب.
لكن…
في الليلة ذاتها، وخلال تدخل الشرطة، تم اعتقال صديقها بسبب خروقات قانونية قام بها، وفي حدود الساعة 03:00 فجرًا غادرت الشابة الفيلا خائفة وتركَتها مفتوحةً، وهو ما أتاح للشرطة السماح لي بالدخول بحضورهم من أجل معاينتها. وقتها فقط علمت أنها ابنة الجيران، إذ لم أكن أعرف هويتها من قبل.
كانت صدمتي كبيرة، فقد كانت الخسائر جسيمة…
قمتُ بتكليف خبراء لتقدير الأضرار، التي بلغت ما يزيد عن 80.000 يورو.
كما قامت الشرطة بالتقاط صور لبعض المسروقات التي وُجدت في البيت، وكانت عبارة عن أدوات حادّة، من بينها سيوف، مما زاد من خطورة الموقف وحجم الضرر النفسي الذي خلفته الواقعة.
وفي اليوم الموالي، تلقيت اتصالًا هاتفيًا من الشرطة، يطلبون مني السماح لها بأخذ ملابس الرضيع، بعد أن تركت كل شيء خلفها أثناء مغادرتها. وافقت، شريطة أن تُسلِّم لي أولًا جميع المسروقات، وأن يتم ذلك بحضور الشرطة تفاديًا لأي مواجهة مباشرة، كما قمتُ باستئجار حراس من إحدى الشركات لحراسة الباب الخارجي للفيلا.
وبصدق، لم يكن أمامي سوى اللجوء إلى الشرطة والاستعانة بالحراس لحماية ممتلكاتي وتوثيق ما حدث بشكل رسمي، خاصة أن وجودهم من شأنه أن يعزز مصداقية أي تقارير أو محاضر قد تُطلب لاحقًا في سياق القضية، وتفاديًا لأي تأويل أو إنكار من الطرف الآخر.
وبحضور الشرطة، سلّمت تلفازين للحراس كانت قد أعطتهما سابقًا لوالدتها، التي تصادف أنها جارتي، كما تم في الوقت نفسه تسليمها ملابس الرضيع. حينها طلبتُ من الشرطة تحرير محضر رسمي يُوثّق المسروقات التي تم استرجاعها، بحضورهم وبحضور الحراس، لضمان إثبات الواقعة رسميًا واعتمادهم كشهود في الملف
تم تحرير المحضر باعتبار الوقائع تدخل في نطاق السرقة الموصوفة، نُسبت إليها مباشرة، مع توجيه تهمة المشاركة إلى والدتها، بعد أن تم العثور على التلفازين داخل منزل هذه الأخيرة، ما جعلها طرفًا مباشرًا في القضية.
هذا الحدث غيّر مجرى الملف. وبعد مسار قضائي دام سنتين، تم تكييف القضية على أنها جنائية، وشعرت حينها أن القضاء الإسباني قد أنصفني من حيث التكييف.
لقد حاولت الشابة جاهدًة أن تُصنَّف القضية على أنها جنحة، مستغلة وضعها الاجتماعي، وساعية للاستفادة من العقوبات البديلة (العمل لفائدة المجتمع) بحكم أنها لا تشتغل ولا تملك دخلاً. كانت تحاول بكل الطرق أن تُحوّل ما حدث إلى مجرد واقعة بسيطة، متجاهلة حجم الضرر الذي تسببت فيه ماديًا ونفسيًا، فقط لتستفيد من آليات التخفيف.
ولا أنكر أنني عانيت كثيرًا، إذ شعرت بالظلم وبقهر لا يوصف. فقد دُمّر بيتي، وانهارت معه كل الذكريات الجميلة التي كنت أحتفظ بها داخله. لم يكن مجرد مكان للسكن، بل كان مستودعًا لسنوات من حياتي، ومأمنًا لذكرياتي وكل ما أعتز به.
لقد ثابرت كثيرًا من أجل أن أثبت حقي، ولم يكن ذلك سهلًا أبدًا. تطلب الأمر صبرًا، وجهدًا قانونيًا طويلًا، بالاضافة إلى مواجهة مستمرة لشعور داخلي بالقهر والظلم. لكن في النهاية، شعرت أن العدالة أنصفتني في اعادة تكييف القضية.
ومن هنا، تبرز إحدى سلبيات العقوبات البديلة: حين يُحاول الجاني استغلال وضعيته الاجتماعية أو بعض الثغرات القانونية لتقليص مسؤولياته، في مقابل أن يُترك الضحية في مواجهة الخسائر وحده، دون جبرٍ حقيقي لما فُقد. كان إحساسي في تلك الفترة أن العقوبة البديلة قد تُصبح أداة لتمييع الجريمة، خاصة إذا لم يُراعَ السياق الكامل للفعل الجرمي.
رغم ذلك، تعلمت أن أقوى سلاح في الأزمات هو العقل، وأن المثابرة والمتابعة القانونية الدقيقة يمكن أن تُعيد للضحية حقه، حتى وإن بدا الأمر في بدايته غير منصف.
شاركتُ هذه التجربة لأقول إن العقوبات البديلة، رغم كونها آلية مهمة ومطلوبة في أي عدالة عصرية، إلا أنها ليست خالية من السلبيات، وقد تخلق أحيانًا شعورًا عميقًا بعدم الإنصاف لدى الضحية، خاصة إذا لم يُؤخذ بعين الاعتبار البُعد الأخلاقي، والضرر الفعلي، والمقصود الجرمي في كل واقعة.
تجدر الإشارة إلى أن العقوبات البديلة بدأت في الظهور بشكل رسمي ومنظّم في إسبانيا سنة 1995 بموجب القانون الأساسي رقم 10/1995، المؤرخ في 23 نوفمبر، المتعلق بقانون العقوبات (Ley Orgánica 10/1995, de 23 de noviembre, del Código Penal)، الذي مثّل نقطة تحوّل في السياسة الجنائية الإسبانية، من خلال تبنّي نهج يركّز على إعادة الإدماج الاجتماعي وتقليص الاعتماد على العقوبات السالبة للحرية، لا سيما في الجرائم البسيطة.
وفي عام 2003، تم إدخال تعديلات تشريعية لتعزيز استخدام تدابير المراقبة الإلكترونية، وتطوير نظام العقوبات المرتبطة بالعنف الأسري، إلى جانب إدراج عقوبات ذات طابع تربوي موجهة للقاصرين.
وفي سنة 2010، تم تقنين آليات العقوبات البديلة المخصصة للقُصّر ضمن القانون الأساسي رقم 5/2000، المؤرخ في 12 يناير، المتعلق بالمسؤولية الجنائية للأحداث (Ley Orgánica 5/2000, de responsabilidad penal del menor)، حيث تم إرساء نظام خاص بالعقوبات التربوية غير السالبة للحرية.
وفي سنة 2015، شهد قانون العقوبات الإسباني تعديلًا جوهريًا من خلال القانون الأساسي رقم 1/2015، المؤرخ في 30 مارس (Ley Orgánica 1/2015), حيث تم إلغاء العقوبات السجنية القصيرة (أقل من ستة أشهر) في العديد من الحالات، واستُعيض عنها بعقوبات بديلة مثل العمل لفائدة المجتمع، والمراقبة، والتدابير ذات الطابع الإصلاحي أو الاجتماعي، انسجامًا مع المبادئ الحديثة للعدالة الجنائية.
للاطلاع على مزيد من التفاصيل، المرجو زيارة الرابط التالي:
https://maglor.fr/mre/alqwbat-albdylt-fy-swysra-nmwdhj-rayd-ldalt-jnayyt-fwalt-wansanyt