
السيدة ليلى الزعروري، متخصصة في مجال الطيران، وباحثة في الأدلة الجنائية الفضائية، وتهتم بالشؤون القانونية والإصلاح القضائي. جنيف، سويسرا.
📍جنيف سويسرا
تجربة شخصية في زمن الأزمة:
تأملات في العدالة التصالحية والعقوبات البديلة
في زمن الأزمات، تظهر بعض التجارب الشخصية كمرآة لقياس فعالية السياسات العامة، ومدى توازنها بين الصرامة والمرونة.
خلال جائحة كورونا، عشتُ تجربة واقعية مع نظام العقوبات البديلة في سويسرا، بعدما خالفت تدابير الحجر الصحي.
ففي لحظة بدت عادية تمامًا، دفعتني رغبة يومية مألوفة إلى عبور الحدود السويسرية نحو فرنسا من أجل شراء باقة نعناع، فقط لأُعدّ كوب شاي كما اعتدت في بيتي كل مساء.
وما إن عدتُ إلى سويسرا حتى تم توقيفي من قبل الشرطة، بسبب انتهاكي لإجراءات الحجر الصحي المفروضة آنذاك، حيث اعتُبرت مغادرتي للبلاد لأجل سبب غير ضروري خرقًا صريحًا للقانون. وقد فُرضت عليّ غرامة مالية مباشرة لحظة توقيفي، قمت بدفعها على الفور.
هذه التجربة لم تكن مجرد حدث عابر، بل كانت مدخلًا لفهم أعمق لفلسفة العدالة في دولة تتبنى القانون بصرامة، لكنها تفتح في المقابل آفاقًا لتصحيح السلوك دون اللجوء دائمًا إلى العقوبات السالبة للحرية.
من خلال هذا المقال، أسعى لتقاسم ما تعلّمته على المستويات النفسية، القانونية، والاجتماعية، وتسليط الضوء على فعالية العقوبات البديلة من منظور إنساني وتجريبي. كما أتناول العلاقة بين هذه العقوبات والتحول الرقمي، وأطرح تساؤلات حول مدى قدرتها على تحقيق توازن عادل بين الردع والإصلاح.
أولًا: التجربة الشخصية وتأملات إنسانية
من هذه التجربة، تعلمت الكثير على المستوى النفسي والسلوكي. أدركتُ أن احترام القانون لا ينبع فقط من الخوف من العقوبة، بل من وعي حقيقي بمغزى هذا القانون في حماية المجتمع. أصبحت أكثر إدراكًا لمسؤوليتي كمواطنة خلال الأزمات، وأكثر وعيًا بضرورة التوفيق بين احتياجاتي اليومية واحترام القانون، عوض اتخاذ قرارات آنية قد تُعرّض المصلحة العامة للخطر.
لحظة توقيفي لم أكن أستشعر أنني ارتكبتُ خطأً فعليًا؛ كنت فقط أرغب في إعداد كوب شاي كما اعتدت، ولا يتوفّر النعناع في المكان الذي أعيش فيه. حين سألني الشرطي عن سبب مغادرتي الحدود السويسرية والدخول إلى فرنسا، أجبته بعفوية: “أردت فقط شراء باقة نعناع.” ابتسم وقال لي بنبرة مهذّبة: “هل تعلمين أنك خالفتِ تدابير الحجر الصحي من أجل باقة نعناع؟” جعلني أسلوبه الراقي أبتسم بدوري، وأدركت حينها فداحة خطئي، ليس من منظور قانوني فحسب، بل أخلاقي وإنساني أيضًا.
فأخبرني بأنه يتعيّن عليّ دفع غرامة مالية قدرها 1500 فرنك، شرح لي الخيارات الممكنة بكل وضوح: إما الدفع الفوري، أو بعد شهر مع إضافة مبلغ التأخير، أو الطعن في الغرامة عبر القضاء.
أدركتُ أن قوة المجتمعات لا تُبنى على التراخي، بل على قوانين صارمة تُذكّر الأفراد بمسؤولياتهم تجاه الآخرين، وتضمن الحد الأدنى من التماسك في أوقات الأزمات. كما شعرت أن سويسرا تطبّق القانون على الجميع دون تمييز، ما عزّز إيماني أن نظامها القضائي عادل وشفاف.
لقد أُتيح لي الدفاع عن موقفي، وشرحت أنني لم أكن أقصد خرق القانون، بل كنتُ ببساطة أبحث عن تلبية حاجة شخصية لم تكن متوفرة محليًا. ورغم ذلك، أُقرّ بأن تطبيق القانون يجب أن يراعي السياق والظروف، دون أن يتنازل عن جوهر مبادئه، وهو ما لمسته جزئيًا في آلية العقوبات البديلة.
كما فهمت أن العقوبة التي فُرضت علي لم تكن مجرد إجراء قانوني، بل رسالة واضحة مفادها أن النوايا الطيبة لا تُعفي من المسؤولية. وأعترف صراحة رغم الظروف التي دفعتني إلى خرق الحجر الصحي، لا أجد اليوم مبررًا مقنعًا لتجاوزي للقانون. عبوري الحدود لأجل باقة نعناع لم يكن تصرفًا مسؤولًا في لحظة استثنائية تطلّبت من الجميع الانضباط والتضحية.
كان لتعامل الشرطي السويسري معي دور كبير في جعلي أُدرك حجم الخطأ الذي ارتكبته، والضرر المحتمل الذي قد يُسببه هذا التصرف العفوي للمجتمع. كما قدّم لي حلولًا بديلة وتسهيلات واضحة، وشرح لي الإجراءات القانونية بطريقة مبسطة، بل سلّمني وثائق رسمية يمكنني استخدامها لاحقًا عند التصريح الضريبي السنوي (la déclaration fiscale) حتى يتم احتساب الغرامة بشكل قانوني.
هذا النوع من التعامل يُبيّن أن سويسرا تستثمر في الفرد، وتؤمن أن الوعي والاحترام المتبادل أساس لبناء مجتمع راقٍ ومسؤول.
ثانيًا: فعالية العقوبات البديلة
في رأيي، كانت العقوبات البديلة فعالة جدًا في ردعي، وأكثر إنسانية من العقوبات السجنية. فهي تفرض المسؤولية دون أن تفصل الفرد عن محيطه الاجتماعي، مما يجعل أثرها التربوي والإصلاحي أعمق وأبقى.
خلال الجائحة، لاحظت أن وعي الناس من حولي ازداد حين شرحت لهم طبيعة العقوبات وغراماتها. العقوبة لم تكن فقط وسيلة للردع، بل أيضًا أداة توعية قانونية، خاصة حين يشعر المواطن أن القانون يُطبّق بعدالة وبدون استثناء.
الفرق بين العدالة التصالحية والعقوبات البديلة
إن العدالة التصالحية تُعتبر في كثير من الأحيان أحد أشكال العقوبات البديلة، لكنها ليست مرادفًا مباشرًا لها. دعني أوضح الفرق والعلاقة بينهما.
ورغم أن مفهومي العدالة التصالحية والعقوبات البديلة يلتقيان في سعيهما نحو تحقيق عدالة أكثر إنسانية ومرونة، إلا أن هناك فرقًا جوهريًا بينهما ينبغي توضيحه.
فـالعقوبات البديلة هي تدابير قانونية تُتخذ كبديل عن العقوبات السجنية، مثل الغرامات المالية، أو العمل لفائدة المجتمع، أو المراقبة الإلكترونية، وهي تهدف إلى تقويم سلوك الجاني دون عزله عن محيطه. وهي ما ينطبق على حالتي الشخصية، حيث تم فرض غرامة مالية مباشرة بدل اللجوء إلى المحاكمة أو الحبس.
أما العدالة التصالحية، فهي فلسفة عدلية أوسع تقوم على إشراك الضحية، والمُخطئ، والمجتمع في عملية حوار ومصالحة تهدف إلى إصلاح الضرر واستعادة العلاقات الاجتماعية.
وفي حين أن العقوبات البديلة تُركّز على تقليل الأذى القانوني الناتج عن العقوبة التقليدية، فإن العدالة التصالحية تهدف إلى إصلاح الضرر المعنوي والاجتماعي الناتج عن الفعل المخالف.
العدالة التصالحية (Restorative Justice):
هي نموذج عدلي يركّز على إصلاح الضرر الناتج عن الجريمة من خلال مشاركة الضحية، الجاني، والمجتمع في الحوار، والمصالحة، واتخاذ خطوات فعلية لتعويض الضرر.
عناصرها الأساسية:
. مشاركة الأطراف المتأثرة بالجريمة.
. الاعتراف بالخطأ من قبل الجاني.
. التوصل إلى اتفاق طوعي لإصلاح الضرر.
. تهدف لإعادة دمج الجاني في المجتمع ومنع التكرار.
العقوبات البديلة (Alternative Sanctions):
هي إجراءات قانونية تُستخدم بدلاً من العقوبات التقليدية (مثل السجن) وتهدف إلى:
. تقليل الاكتظاظ السجني.
. تأهيل الجاني.
. حماية المجتمع بشكل أكثر فاعلية.
أمثلتها:
الخدمة المجتمعية، الإقامة الجبرية، الغرامات، برامج التأهيل، العدالة التصالحية.
العلاقة بينهما:
. العدالة التصالحية قد تُستخدم كعقوبة بديلة، خاصة في الجرائم البسيطة أو غير العنيفة.
. هي شكل خاص ومتميز من العقوبات البديلة لأنها تركز على الإصلاح والمصالحة أكثر من العقاب.
. تُطبّق غالبًا بموافقة جميع الأطراف وتحت إشراف قضائي.
رغم أن تجربتي تعبّر عن نموذج فعّال لتطبيق العقوبات البديلة في لحظة استثنائية، إلا أنه لا يمكن اعتبارها مثالًا مكتملًا على العدالة التصالحية بالمعنى الدقيق. فالعدالة التصالحية تقوم على إشراك مباشر لأطراف الجريمة، مثل الضحية والجاني والمجتمع، وتهدف إلى إصلاح الضرر المعنوي والاجتماعي من خلال الحوار والمصالحة. أما ما عشته، فقد كان إجراءً قانونيًا بحتًا، جرى فيه اللجوء إلى غرامة مالية كبديل عن السجن، من دون إشراك أطراف أخرى أو بناء مسار تصالحي.
ومع ذلك، تُظهر هذه التجربة إمكانيات الردع الإنساني، وفعالية العقوبات البديلة كأداة لتقويم السلوك وتحقيق العدالة من دون المساس بكرامة الفرد أو فصله عن محيطه الاجتماعي. وهي بذلك تمهّد الطريق للتفكير في عدالة أكثر مرونة وإنصافًا، تراعي السياق الإنساني ولا تكتفي بالمنظور القانوني الصارم.
خاتمة: العقوبات البديلة والعدالة التصالحية ليستا مجرد أدوات قانونية بل رؤى إنسانية
ُظهر تجربتي مع العقوبات البديلة أن هذه الآلية ليست مجرد تقنية قانونية، بل فلسفة عدلية متكاملة تعيد النظر في جوهر العقوبة. إنها تتيح الردع دون تدمير الحياة الاجتماعية للفرد، وتوفّر للدولة موارد بدلًا من استنزافها، وتُمهّد لعدالة أكثر مرونة وإنصافًا.
لكن نجاح هذه المنظومة يظل رهينًا بوجود إطار شامل يُنظّمها ويُضمن فعاليتها. لهذا، أوصي بضرورة وضع منظومة متكاملة لتطبيق العقوبات البديلة تدريجيًا، مع التأكيد على المرافقة الاجتماعية للمحكوم عليهم، وتدريب الفاعلين في حقل العدالة، حتى يتحقق التوازن بين الردع والرحمة، وبين صرامة القانون ومرونة الواقع.
{ الجزء التاني : يتبع }
للاطلاع على مزيد من التفاصيل، المرجو زيارة الرابط التالي:
https://maglor.fr/arabe/alqwbat-albdylt-khlal-ftrt-alhjr-alshy