
📍جنيف، سويسرا
جوهر العلاقة بين القانون والمجتمع
في زمن تتسارع فيه التغيرات المجتمعية وتتشعب فيه القضايا القانونية، يصبح التواصل بين القضاء والمجتمع ليس رفاهية، بل ضرورة ملحّة.
حين تكون العدالة شفافة ومفهومة، يشعر المواطن بأنها نظام يحميه لا سلطة تهدده. فيتحوّل القانون من نصوص جامدة إلى أداة إصلاح، ومن أحكام مغلقة إلى ثقافة راسخة.
وقد سنحت الفرصة مؤخرًا لمتابعة الحوار القيّم الذي أجراه السيد عبد العالي المصباحي، المحامي العام بمحكمة النقض منذ سنة 2011، والذي راكم تجربة قضائية غنية من خلال تقلده عدة مناصب من بينها نائب الوكيل العام ونائب أول لوكيل الملك بعدد من محاكم المملكة.
ما ميّز هذا الحوار هو الرقي في الطرح والوضوح في الشرح، حيث ناقش من خلاله جملة من القضايا القانونية والاجتماعية العميقة، مسلطًا الضوء على جوهر العلاقة بين القانون والمجتمع، ومُبرزًا أهمية جعل القانون أقرب إلى المواطن وأكثر فهمًا لديه.
لقد شكّل هذا الحوار نموذجًا لما يجب أن يكون عليه التواصل بين السلطة القضائية والرأي العام: حوار هادف، مبسّط، وذو بعد توعوي وتثقيفي.
وقد أثبتت التجربة أن الحوار القانوني المفتوح يقرّب الناس من القانون، ويمنحهم شعورًا بالشراكة بدل التهميش. وفي هذا السياق، تظهر عدة أبعاد جوهرية لهذا التواصل:
1.نشر الثقافة القانونية يقلل من الجهل بالقانون، والجهل بالقانون لا يعفي من العقوبة. لذلك، كلما كان الناس أكثر وعيًا، كانوا أقل عرضة لارتكاب مخالفات، عن قصد أو عن غير قصد.
2.الإحساس بالعدالة يولّد الثقة. فعندما يُقدَّم القانون للناس بوضوح، وتُناقش أبعاده بلغة مفهومة، يشعر المواطن أنه طرف فاعل في المنظومة لا مجرد متلقٍّ لها، وأن العدالة ليست حكرًا على النخب، بل نظام وُجد ليَخدم الجميع ويحمي الحقوق دون تمييز.
3.الوقاية خير من العقوبة. نشر الوعي القانوني وتفسير الفصول والمواد القانونية بلغة مبسطة وشفافة يُعدّ شكلاً من أشكال الوقاية المجتمعية من الجريمة.
4.دور وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي محوري. فعندما تُستخدم هذه القنوات في عرض وتحليل قضايا عامة بلغة موضوعية وتربوية، فإنها تفتح بابًا لفهم أعمق، وتُسهم في بناء رأي عام قانوني مستنير.
وليس من قبيل المصادفة أن تُولي العديد من الدول المتقدمة أهمية بالغة للتواصل القانوني مع المجتمع، فتُنظَّم ندوات متخصصة، وبرامج إذاعية وتلفزية، ولقاءات توعوية دورية، تُعنى بتفسير المستجدات التشريعية وتحليل القضايا ذات الطابع العام.
ذلك أن القانون، مهما بلغت دقّته ومتانته، يفقد جزءًا كبيرًا من أثره ونجاعته إذا ظل حبيس أروقة المحاكم ومكاتب الممارسين، دون أن يجد سبيله إلى وعي المواطن وفهمه. فالفعل القانوني لا يكتمل إلا إذا أصبح جزءًا من الثقافة العامة، يُدرَك ويُستوعَب كما يُحتَرم ويُطبَّق.
في ظل غياب مادة قانونية ضمن المناهج الدراسية في المستويين الإعدادي والثانوي، يُصبح الحوار القانوني مع المجتمع ضرورة تربوية وأمنية، لا مجرد نشاط ثقافي. فتعزيز الوعي القانوني لدى المواطنين، خاصة في سن مبكرة، يمكن أن يشكّل جدارًا وقائيًا ضد الجريمة، إذ أن الفهم المسبق للحقوق والواجبات يُسهم في تقويم السلوك والحدّ من المخالفات
إن التواصل بين القضاء والمجتمع ليس رفاهية، بل ضرورة.حين تكون العدالة شفافة ومفهومة، يشعر المواطن بأنها ليست قوة غامضة تهدده، بل نظام يحميه. وهنا يصبح الحوار القانوني أداة فعّالة لتقريب القانون من الناس، لا لفصلهم عنه، ووسيلة لبناء مجتمع تُصان فيه الحقوق ويُحترم فيه القانون.