المصطفى قبلاني /تولوز الفرنسية. سناء الديري… حين يتحول البحث العلمي إلى رسالة إنسانية
وسط عالم طبي شديد التعقيد، استطاعت الدكتورة المغربية سناء الديري أن تحجز لنفسها مكانة وازنة في مجال الأمراض النادرة، مجال لا يختاره إلا من يؤمن بأن العلم ليس مهنة فقط، بل التزام أخلاقي تجاه الإنسان. من الدار البيضاء إلى لندن، وصولًا إلى تولوز الفرنسية، نسجت مسارًا علميًا استثنائيًا جعل منها واحدة من الأسماء البارزة في البحث الطبي المتخصص.
بدأت علاقة سناء الديري بالعلم مبكرًا، غير أن شغفها الحقيقي تبلور عندما اكتشفت عن قرب كيف يمكن للتقدم العلمي، خصوصًا في مجال التلقيح الاصطناعي، أن يغير مصائر بشرية كاملة. تلك اللحظة كانت الشرارة التي دفعتها إلى التعمق في العلوم الطبية، فتابعت دراستها الجامعية بجامعة الحسن الثاني بالمغرب، قبل أن تخوض تجربة علمية نوعية بالمملكة المتحدة داخل إمبريال كوليدج بلندن، حيث انفتحت على البحث العلمي بمعاييره العالمية.
لاحقًا، اختارت فرنسا لمواصلة مسارها الأكاديمي، فحصلت على ماستر في الفيزيوباثولوجيا، ثم دكتوراه في الأمراض الوراثية من جامعة بول ساباتييه بتولوز، لتتخصص في مجال دقيق ومعقد يرتبط بالاضطرابات الجينية النادرة. اختيار لم يكن سهلًا، لكنه عكس رغبة حقيقية في اقتحام مجالات علمية ما تزال في طور الاستكشاف.
تركزت أبحاث الدكتورة الديري على دراسة الآليات الجزيئية للأمراض النادرة، حيث ساهمت في توسيع فهم دور جزيئات الـsnoRNA في التفاعلات الهرمونية داخل الخلايا. وخلال فترة ما بعد الدكتوراه، طورت مقاربة مبتكرة مكنت من تحويل الخلايا الجلدية إلى خلايا عصبية، وهو إنجاز علمي يفتح آفاقًا واعدة في دراسة الأمراض العصبية الوراثية. كما كان لها حضور لافت في الأبحاث المتعلقة بمتلازمة برادر-ويلي، أحد الاضطرابات الوراثية النادرة والمعقدة.

اليوم، تتولى سناء الديري رئاسة المركز المرجعي للأمراض النادرة بمستشفى الأطفال الجامعي في تولوز، حيث تشرف على فريق متعدد التخصصات يجمع بين الأطباء والباحثين. هناك، توازن بين العمل السريري اليومي والبحث العلمي المتقدم، واضعة المريض في صلب اهتماماتها. كما تشارك بانتظام في مؤتمرات دولية وتنشر أبحاثها في مجلات علمية مرموقة، ما عزز مكانتها كمرجع في تخصصها.
ولا يقتصر دورها على المختبر والمستشفى، إذ تولي أهمية كبيرة للتوعية المجتمعية بالأمراض النادرة، خاصة في المغرب، حيث لا يزال التشخيص المبكر يشكل تحديًا حقيقيًا. ومن هذا المنطلق، أطلقت مبادرات تحسيسية ومواد تعليمية موجهة للأسر والأطر الصحية، دفاعًا عن حق المرضى في المعرفة والرعاية.

ورغم مسارها المهني خارج الوطن، تحرص الدكتورة الديري على الحفاظ على روابط قوية مع المغرب، من خلال التدريس في ماستر الجينوم الدولي بجامعة الحسن الثاني، والمشاركة في شبكات الكفاءات المغربية بالخارج. بالنسبة لها، التجربة الدولية ليست قطيعة، بل رصيدًا معرفيًا يجب أن يعود بالنفع على بلد المنشأ.
تمثل سناء الديري اليوم نموذجًا لعالِمة مغربية نجحت في الجمع بين التميز العلمي والبعد الإنساني، وبين الطموح الشخصي وخدمة المجتمع. قصة تؤكد أن العلم، حين يُحمل بإرادة صادقة، قادر على صنع الأمل وتغيير حياة الكثيرين.