
حينما تعيش تجربة تحتم عليك المقارنة بين إعداد أطروحة بحثية داخل جامعة مغربية وأخرى من جامعة غربية، تجد نفسك أمام مفارقات غريبة، أهمها:
- في المغرب، قد تجد نفسك أمام أستاذ/مؤطر يعتقد نفسه مالكا للحقيقة المطلقة، ووحده يمتلك ناصية العلم والمعرفة، ووحده الناحت الأول والأخير للمنهجيات والمفاهيم والنظريات والإحصائيات والكتب و المراجع والمؤلفات( ذكرني الوصف بفولتير في ملحمته الكونديدية تجاه ليبنيتز). في الجامعة المغربية (وطبعا، مع تقديري العميق والكبير واللامشروط لأساتذة وأستاذات، أبانوا عن غيرتهم وحسهم وتقديرهم لطلبتهم، وغيرتهم أيضا على الجامعة المغربية)، يتعالى الأستاذ، عادة، ليس بعلمه، ومنجزاته البحثية، ولكن بشواهده، وكونه مؤطرا لك ليس إلا. قد يرافقك الأستاذ طيلة البحث، ليس كمرشد وموجه ومساعد من أجل الرقي ببحثك، ولكنه يمتهن مهنة البحث عن الزلات والنواقص ويعمل على تكريسها وإثباتها، إنه متخصص في إظهار المعيقات، وإن لم توجد، يشتغل على خلقها.
في الجامعة المغربية، يعمل المؤطر على تحنيطك في قوالب منهجية جاهزة، ولا يقبل الاختلاف أو الابداع، وتمردك على المنهجيات البحثية السائدة أو على العدة المفاهيمية الشائعة، هو، بالنسبة له، تمرد على نمط تفكيري سقط فيه المؤطر طوعا أو غصبا فأضحت بالنسبة له شريعة مقدسة، على الطالب(ة) ألا يجروء على تجاوزها، وإلا فهو منبوذ بقوة الرداءة الفكرية التي باتت تسكن بواطن "الأستاذ الجامعي" الذي لا يرضى إلى بما يحلم به ليلا، ويرغب في أن يطبقه الطالب نهار.
في الجامعة المغربية، ليس من حق الطالب أن يحلم أو يبدع أو يرفض أو يناقش، بل عليه أن يعلل ما يريده المؤطر، ووفق ما يكتنف عقلية الأستاذ حتى وأن اتضح أنه لم يقرأ أو لم يكتب منذ عقود خلت.
في الجامعة المغربية، ليس البحث العلمي هو أساس النقاش وإنما مدى قدرة الطالب على الانخراط في هوى الأستاذ وتصوراته القبلية والبعدية.
لنأتي هنا إلى تجربة مغايرة، هناك وراء البحار، وليس هذا دفاعا عن دولة ما أو تقليلا من أساتذتي الذين أكن لهم الاحترام، وليس تقليلا من الجامعة المغربية، فالتجربة الشخصية وحتى سلوك أستاذ تجاه الطالب لا يقتضي التعميم ولكنه يبين وجود ظاهرة لابد أن نميط اللثام dévoilement عنها حتى نصحح الاختلالات التي ظلت تجثم بثقلها على مؤسساتنا الجامعية.
هناك، حيث الأستاذ، ظل طيلة سنوات البحث يزودني، كل أسيوع تقريبا بمقالات وكتب منشورة في دور نشر عالمية ومعترف بها، ولا يمكن الحصول عليها داخل كلياتنا إلا بعد شهور أو سنوات، ملاحظاته يومية وتصويباته هي مقترحات لأفق، يشجعك على الاستمرار في الإبداع وليس "قتل الهم العلمي" الذي تحمله"، هناك حيث الأستاذ يبدأ بالاعتذار أثناء كل تصويب، وبالتشجيع أثناء كل إنجاز. هناك حيث الأستاذ يرسم أمامك معالم تطبيقية للبحث في حدود لا تنتهي، حيث قد يخبرك مثلا أن هذه الفقرة التي حررتها يمكن إضافتها في تقرير يخص تنمية دولة أو مشروع مؤسسة عالمية.... هناك حيث الأستاذ مدافعا عن الطالب كمشروع باحث وليس كمريد لابد أن يتبع شيخه، هناك حيث الأستاذ يعلن منذ البداية، أنه ليس أستاذ، وإنما هو أيضا باحث، سيستفيد من تجربتك البحثية ومن تجربتك "الغنية"، إلى حد تستغرب أي منكما في حاجة إلى الآخر.
هناك، هناك، وبين "الهنا" و"الهناك"، نعيش بين غيرة رهيبة على وطن ننادي دوما : لابد أن ننجح وتنجح الجامعة المغربية، وبين تشجيعات رهيبة تشبه سلاسل تناديك بأن العالم أفسح وأن الدول نجحت لأنها تقدر البشر، وتعترف بمجهوداتهم، ولو كانت بسيطة. ولا غرو أن تكون آخر كلمة عميد الكلية التي ناقشت فيها هناك، حيث الميثاق يحبد حضوره مناقشة الأطروحات التي طلبتها من خارج البلد، قال: سعيد جدا بحضوري، ونتمنى أن تكون هنا لفتح مختبر دراسات حول شمال افريقيا. ...
فقلت نحن هنا، لأن حضن الوطن أكبر، وأولئك الذين ساعدونا أهم من أولئك الذين يعشقون ارجاع العداد إلى الصفر.