
تعدّ ''الوصية الشرعية'' من الموضوعات التي ما فتئت تحتاج إلى جرعة إضافية من الاجتهاد فيما يخص ''فقه المهجر''؛ ذلك أن حمولة الوصية وشحنتها تختلف بين البلاد الأصلية وأرض الغربة، فحينما تُذكر هذه الكلمة في المجتمعات الإسلامية ينصب الاهتمام على الجانب المادي أيْ تَرِكة الهالك. لا نستغرب، إذن، من وجود تعريفات تصفها بأنها: "تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع " أو "عقد يوجب حقا في ثلث عاقده يلزم بموته…"...
يهَوّن من سيئات هذا الاختزال كَوْن المجتمع بِدينه وقوانينه وأعرافه يتكفل بالجوانب الأخرى، كمراسيم الدفن وكفالة الأبناء وقضاء الديون ورد الودائع... بل وأحياناً أداء فريضة الحج نيابة عن المتوفي.
في بلاد المهجر غير الإسلامية الأمر يختلف، فالقوانين والأعراف لا يمكنها أن تسد ما سكتت عنه ''الوصية الشرعية''، بل قد تتعارض هذه الأخيرة مع القوانين المحلية للبلد؛ وهو ما يدفع المسلم المغترب إلى ''التحايل'' تارة على القانون وتارة على الدين نفسه، آملا أن تسترجع الوصية شرعيتها عبر بوابة ''فقه المقاصد" أو الضرورات التي تبيح المحظورات.
لا يتَغيّى هذا المقال حل معضلات ''الوصية الشرعية'' ولا حتى بسطها بالتفصيل، بل كل ما يرجوه هو التنبيه ودق الناقوس علَّ مَنْ هُم أفْقَهنا وأعلمنا ينْبرون لمعالجة هذا الموضوع.
والأكيد هو أن حجم ونوع الإشكالات التي تواجهها الجالية الإسلامية في هذا المضمار وغيره تختلف حسب قوانين البلد المضيف ومدى انتظام الجالية وتنظيمها؛ بيْد أن ثمة حدا أدنى مشتركا بين الجميع: مسلمون في بلاد غير إسلامية يأملون أن تتحقق بعض رغباتهم بعد موتهم وفق ما تقتضيه شريعتهم. دون ذلك تفاصيل عدة يستحيل مجرد ذكرها بلْهى مناقشتها في هذه العجالة.
وكون الأقدار شاءت لكاتب هذه الكلمات أن يهاجر إلى مقاطعة كيبيك بكندا، فإننا نقترحها أنموذجا.
نشير، في البداية، إلى أن الحديث عن كيبيك دون بقية كندا لا يشي بتماهينا مع الأطروحة الانفصالية للمقاطعة، لكن المُشرِّع المَحلّي تبنَّى، لاعْتبارات تاريخية، القانون المدني المستمد إجمالا من القانون الفرنسي، عكس المقاطعات الأخرى التي تحتكم إلى القانون العرفي الأنكلوساكسوني.
أما الوجود الإسلامي في كيبيك فيمكن نعته بأنه حديث نِسبياً، كما أن الجالية بصفة عامة تعرف فُتوّة مقارنة مع باقي الجاليات. وعليه، فنسبة الأطفال المسلمين هنا مرتفعة. ولعل هذا المعطى الديمغرافي شكَّل حافزاً للاهتمام بالوصية من باب تسمية أو تعيين الوصي على الأبناء un tuteur في حالة وفاة الوالدين.
وبالرغم من غياب أي إحصاءات عن عدد الأطفال المسلمين الذين تكفلت بهم مديرية حماية الشبيبة Direction de la protection de la jeunesse، فإن المخاوف الكلاسيكية ماثلة بقوة في الأذهان: لا أريد لأبنائي أن يتربَّوا مِن بَعدي في وسط غير إسلامي.
من جهة أخرى، وقعت حوادث حرق بعض جثت المسلمين، أو دفنهم في مقابر غير إسلامية؛ وهو ما ولّدَ نوعاً من الصحوة / الصدمة جعلت المسلمين يتنبهون إلى موضوع الوصية. هذه المرة من باب الدفن ومراسيمه؛ فمنهم من أوْصى بنقل جثته إلى البلد الأصلي، فيما فضّل آخرون بلد الإقامة على أن يُدفن في مقبرة إسلامية وفق طقوس إسلامية. ثم يأتي موضوع التَّركة، وفي هذا الموضوع بالضبط أعتقد أن ''الوصية الشرعية'' لا تبقي شرعية جدّاً على الأقل لسببيْن اثنين، مع تسليمنا التام بأن الضرورات لها أحكامها الخاصة وتُقدَّر بقدرها.
أولاً، وتفادِيا لوقوع بعض التركة تحت طائلة القانون المحلي، يعمد المرء هنا إلى التوصية بكل ممتلكاته، والمفترض أن الوصية في الإسلام لا تتعدى (الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ). أما النقطة الثانية فهي التوصية للورثة الشرعيين علما أنه في ديننا ''لا وصية لوارث".
في الواقع، كانت هناك بعض محاولات الإصلاح بين الشرع والقانون من خلال الوصية بتقسيم التركة حسب الشريعة الإسلامية. والأصل في كيبيك أن للإنسان أن يختار قانون بلده الأصلي كي يطبق على تَركته (الفصل 3098 من القانون المدني)، لكن القضاء سبق له رفض تطبيق القانون الإسلامي بالخصوص.
كما أن بعض فقهاء القانون الدولي الخاص يرون أنَّ الشريعة الإسلامية تمارس تمييزاً ضد النساء بإعطائهن نصف حصة الرجال، وهو ما يخالف النظام العام بالمقاطعة وبالتالي وجب استعمال الفصل 3081 الذي يحثُ على تجاهل القانون الأجنبي المتعارض مع ''النظام العام كما هو متعارف عليه في العلاقات الدولية".
أمام هذه العقبات قد يلجأ البعض إلى التوصية بالأسهم الشرعية للورثة، فتصير الوصية مجرد تذكير بالتقسيم الشرعي. وهنا، لا يتسنّى للقضاء الاعتراض، إذ التّقسيم ليس نابعاً من قانون ما ولكنه وليد إرادة حُرّة لا يمكن إلا احترمها. المشكلة في هذا الإجراء هي كوْن هذه الوصية تحتاج إلى تحيين mise à jour مع كل جديد في العائلة (ازدياد، وفاة، طلاق…)، وقد يتجاوز الأمر الأسرة الصغيرة ليشمل الإخوة والوالدين وغيرهم.
وحين نعلم أن القانون هنا يؤكد أن ''الوصية إجراء قانوني فردي" (الفصل 704)، أي أنه لا يمكن تحرير وصية مشتركة. النتيجة: وجود وصيّتين يجب تحْديثهما حسب مستجدات الأسرة الصغيرة وعائلة الزوجين..
من جهة أخرى، وبالرغم من أن الأطفال الورثة يبقون تحت وصاية الوالد الحي فإن حصتهم إذا تجاوزت 25000 دولار تكون خاضعة لمراقبة الدولة؛ وهو ما يتطلب جردا سنويا وتصريحات ضريبية ومراسلات إدارية (الفصل 209). وقد يستثقل بعض الوالدين هذه المراقبة كما يعتبرها تدخلاً في ''شأن الأسرة الداخلي''؛ وهو ما فتح الباب أمام ممارسة غير مأمونة العواقب تتجلى في أن يوصي الزوجيين شَكلياً، أحدهما للآخر، بكل التركة، ويوصي الاثنين لطرف ثالث حالة وفاتهما معاً، على أن يتعهد الكلّ، أخلاقياً وبدون أي وثيقة، بتقسيم التركة وفق الشريعة الإسلامية: نوع من إبراء الذمة محفوف بالمخاوف وبالشبهات...
ملاحظة أخرى لا تقل أهمية، وهي أن القانون الكيبيكي أبدى ليبيرالية أكثر من نظيره الفرنسي حيال الوصية، حيث أجاز للموصي أن يتصرف بحرية في كل تركته؛ في حين أن القانون الفرنسي خصص للزوج/ الزوجة والفروع حيِّزاً لا يمكن شمله بالوصية ويطلق عليه اسم la réserve héréditaire ) الفصل 912 من القانون المدني الفرنسي)؛ لكن هذه الليبيرالية تفقد جزءًا من معناها عند قوانين الملكية الأُسَرية Patrimoine familial وRégime matrimonial.
والذي منتهاهما تَملُّك الزوج الحي قانونياً لنسبة مهمة من التركة قبل أي توزيع على الورثة. مضمار آخر للمواجهة بين القانوني والشرعي، مواجهة يشتد أوارها أكثر عند الزواج المختلط أو عندما تختلط الأولويات على الزوج الحي ولو كان مسلماً.
وقبل الختام نُذَكِّر أن القانون الكيبيكي يعترف بثلاثة أنواع من الوصايا: وصية خطية، وصية أمام شاهدين ثمَّ وصية موثقة أيْ عند الموثق (الفصل 712 وما يليه). قد يبدو للوهلة الأولى أن الالتجاء إلى النوعين الأولين أبسط وأقل تكلفة، لكن تنفيذهما يتطلب حكما قضائيا؛ وهو ما يعني وقتا وجهدا ومصاريف أكبر. وعليه، فمن المحبذ تحرير الوصية عند الموثق.
بالنسبة إلى الوصاية على الأطفال الذين لم يبلغوا سن الثامنة عشرة، فإن المشرع أجاز تسمية وَصِي أو أوصياء tuteur سواء في وثيقة مستقلة أو من خلال الوصية (الفصل 200). وعليه، فإذا تكاسل أحدنا على تحرير الوصية، ولا ينبغي له ذلك، فيمكنه على الأقل أن يسحب وثيقة تسمية الوصيDéclaration de tutelle dative من الأنترنيتi وو يبعثها بعد مَلئها إلى '' القيِّم العام '' curateur public.
أؤكد على ما أشرت إليه في البداية، فالموضوع لا يزال مفتوحا لاجتهادات المجتهدين وفتاوي المُفْتين. كما أن السفارات والقنصليات يمكنها أن تسهم في هذا الباب، على أن الوِزْر الأكبر يبقى فوق عاتق الجاليات. أما بالنسبة إلى مقاطعة كيبيك بشكل خاص، فيبدو أن الوقت قد حان كي نستثمر النَّفس الجديد للسياسة القضائية والمتمثلة في الإصلاحات التي همت المسطرة المدنية والتي أَوْلتْ اعتباراً أكبر للقضاء البديل،
وأقترح الاستفادة من أخطاء الماضي المتعلقة بمشروع المحكمة الشرعية، والاستعاضة عنها بمكاتب استشارات قانونية يمكنها أن تقوم بالدور نفسه دون أن تحمل اسماً مُستفزاً. في انتظار ذلك، نهمس في أذن كل من أهمَّه مصير أبنائه القُصّر ومآل جثته بعد الموت ثم مآل تركته: عليك بالمُوثّق. والله المستعان.